فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (12- 13):

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}
{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ. والفُراتُ: للذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه. والأُجاج الذي يحرقُ بملوحتِه. وقرئ: {سيِّغ} كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ. ومَلِح ككَتِفٍ. وقوله تعالى: {وَمِن كُلّ} أي من كلِّ واحدٍ منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ} أي من المالحِ خاصَّةً {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ، وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ. والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ {وَتَرَى الفلك فِيهِ} أي في كلَ منهما. وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لأنَّ الخطابَ لكُلِّ أحدٍ تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ {مَوَاخِرَ} شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا من فضلِه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكُروا على ذلك. وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى. {يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي اليل} بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلَ منهما إلى الآخرِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج. واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه. وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى: {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً {لاِجَلٍ مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله وقيل: جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما، والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما، ومدَّةُ الجريانِ للشَّمسِ سنةٌ وللقمرِ شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ {ذلكم} إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورةِ، وما فيهِ من معنى البُعدِ للإيذانِ بغايةِ العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكُم العظيُم الشَّأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} وفيه من الدِّلالةِ على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الأخبارِ له ما لا يخفى، ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} للدِّلالةِ على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ. وقرئ: {يَدعُون} بالياءِ التحتانيةِ. والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ.

.تفسير الآيات (14- 17):

{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}
{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ {وَلَوْ سَمِعُواْ} على الفرضِ والتَّقديرِ {مَا استجابوا لَكُمْ} لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإنَّ ذلك ممَّا لا يُتصور منهم في الدُّنيا {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم ما كنتُم إيَّانا تعبدونَ {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين. والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ.
{ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} في أنفسِكم وفيما يعنُّ لكم من أمرٍ مهمَ أو خطبٍ ملمَ. وتعريفُ الفقراءِ للمبالغةِ في فقرِهم كأنَّهم لكثرةِ افتقارِهم وشدَّةِ احتياجِهم هم الفقراءُ فحسب وأنَّ افتقارَ سائرِ الخلائقِ بالنسبةِ إلى فقرِهم يمنزلةِ العدمِ ولذلك قال تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} {والله هُوَ الغنى الْحَمِيدُ} أي المستغنِي على الإطلاقِ المنعمُ على سائرِ الموجوداتِ المستوجبُ للحمدِ {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} ليسُوا على صفتِكم بل مستمرُّون على الطَّاعةِ أو بعالمٍ آخرَ غيرِ ما تعرفونَهُ {وَمَا ذلك} أي ما ذُكر من الإذهابِ بهم والإتيانِ بآخرينَ {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بمتعذرٍ ولا متعسرٍ.

.تفسير الآيات (18- 22):

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي لا تحملٌ نفسٌ آثمةٌ {وِزْرَ أخرى} إثمَ نفسٍ أُخرى بل إنَّما تحملُ كلُّ منهما وزرَها. وأمَّا ما في قولِه تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} من حملِ المضلِّين أثقالاً غيرَ أثقالِهم فهو حملُ أثقالِ إضلالِهم مع أثقالِ ضلالِهم وكلاهما أوزارُهم ليس فيها من أوزارِ غيرِهم شيء {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفسٌ أثقلَها الأوزارُ {إلى حِمْلِهَا} لحملِ بعضِ أوزارِها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} لم تُجبَ بحملِ شيءٍ منه {وَلَوْ كَانَ} أي المدعُو المفهوم من الدَّعوةِ {ذَا قربى} ذا قرابةٍ من الدَّاعي. وقرئ: {ذُو قُربى}. وهذا نفيٌ للحملِ اختياراً والأوَّلُ نفيٌ له إجباراً {إِنَّمَا تُنذِرُ} استئنافٌ مسوق لبيان من يتَّعظُ بما ذُكر أي إنَّما تنذر بهذه الإنذاراتِ {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخشَونَه تعالى غائبينَ عن عذابِه أو عن النَّاسِ في خلواتِهم أو يخشَون عذابَه وهو غائبٌ عنهم {وَأَقَامُوا الصلاة} أي راعَوها كما ينبغي وجعلوها مَنَاراً منصوباً وعَلَماً مرفُوعاً أي إنما ينفعُ إنذارُك وتحذيرُك هؤلاءِ من قومِك دُون مَن عداهُم من أهل التَّمرد والعنادِ {وَمَن تزكى} أي تطهرَ من أوضار الأوزارِ والمعاصِي بالتَّاثرِ من هذهِ الإنذاراتِ {فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} لاقتصارِ نفعِه عليها كما أنَّ مَن تدنَّس بها لا يتدنَّس إلا عليها. وقرئ: {من ازكَّى فإنَّما يزكَّى}، وهو اعتراضٌ مقررٌ لخشيتهم وإقامِتهم الصَّلاةَ لأنَّها من معظمِ مبادِي التزكِّي {وإلى الله المصير} لا إلى أحدٍ غيرهِ استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكِّيهم أحسنَ الجزاء.
{وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير} أي الكافرُ والمؤمنُ {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي ولا الباطلُ ولا الحقُّ وجمع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} أي ولا الثَّوابُ ولا العقابُ. وإدخالُ لا على المتقابلينِ لتذكيرِ نفيِ الاستواءِ وتوسيطُها بينهُما للتَّأكيدِ. والحرَرورُ فَعولٌ من الحرِّ غلب على السَّمومِ وقيل: السَّمومُ ما يهبُّ نهاراً والحَرورُ ما يهبُّ ليلاً {وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات} تمثيلٌ آخرُ للمؤمنينَ والكافرينَ أبلغُ من الأوَّلِ ولذلك كُرِّر الفعلُ وأُوثر صيغةُ الجمعِ في الطَّرفينِ تحقيقاً للتَّباينَ بين أفرادِ الفريقينِ وقيل: تمثيلٌ للعُلماءِ والجَهَلةِ {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أنْ يُسمَعه ويوفِّقه لفهم آياتِه والاتَّعاظِ بعظاتِه {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} ترشيحٌ لتمثيل المصرِّينَ على الكُفرِ بالأمواتِ وإشباعٌ في إقناطِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من إيمانِهم.

.تفسير الآيات (23- 27):

{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)}
{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائِفك ولا حليةَ لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم {إِنَّا أرسلناك بالحق} أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوزُ أنْ بتعلَّق بقوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ} أي ما من أمةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ {إِلاَّ خَلاَ} أي مَضَى {فِيهَا نَذِيرٌ} من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم. والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لاسيما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ {وَإِن يُكَذّبُوكَ} أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأممِ العاتيةِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي المعجزاتِ الظَّاهرةِ الدَّالةِ على نُبوُّتهم {وبالزبر} كصُحفِ إبراهيمَ {وبالكتاب المنير} كالتَّوارةِ والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التَّفصيلِ دُون الجمعِ وبجوزُ أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضعَ الموصولَ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّزِ الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها.
{أَلَمْ تَرَ} استئنافٌ مسوق لتقريرِ ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطَّردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ. والرُّؤيةُ قلبية أي ألم تعلمَ {أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماءِ. والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديعِ المنبىءِ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصنافٍ مختلفةٍ. أو هيئاتُها وأشكالُها أو ألوانُها من الصُّفرةِ والخُصرةِ والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى: {مّنَ الجبال جُدَدٌ} أي ذو جديد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ على ظهره وقرئ: {جُدُد} بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} بالشِّدةِ والضَّعفِ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل: ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ. تأكيدٌ للأسودِ كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ، ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ:
والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها

وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ.

.تفسير الآيات (28- 29):

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}
{وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله} وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ. وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريريِّ المُنبىءِ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبَّرْ. وقوله: {كذلك} مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلافِ الثِّمارِ والجبال وقرئ: {ألواناً} وقرئ: {والدَّوابَ} بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} تكملة لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم، أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفةُ المخشيِّ والعلمُ بشؤونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له» ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدَّالَّةِ على كمالِ قُدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية. وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمرُ وقرئ برفعِ الاسمِ الجليلِ ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه.
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتَّى صارتْ سمةً لهم وعُنواناً. والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ. وقيلَ: جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ. وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهراً ممَّا لا سيبلَ إليه كيفَ لا والمقصودُ التَّرغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيانِ حقِّيتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها.
وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيثُ أنَّه حكَّمها بل من حيثُ حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً} كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل: السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ {يَرْجُونَ تجارة} تحصيلَ ثوابٍ بالطَّاعةِ وهو خبرُ إنَّ. وقوله تعالى: {لَّن تَبُورَ} أي لن تكسدَ ولن تهلكَ بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ. والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم.